سعد موسى من مروق الحوت إلى البحر و(قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ).. هذا ما كنا نريده.. إن تسرب الحوت يحدد المكان الذي سنلتقي فيه بالرجل العالم.. ويرتد موسى وفتاه يقصان أثرهما عائدين.. انظر إلى بداية القصة، وكيف تجيء غامضة أشد الغموض، مبهمة أعظم الإبهام.
أخيرا وصل موسى إلى المكان الذي تسرب منه الحوت.. وصلا إلى الصخرة التي ناما عندها، وتسرب عندها الحوت من السلة إلى البحر.. وهناك وجدا رجلا.
يقول البخاري إن موسى وفتاه وجدا الخضر مسجى بثوبه.. وقد جعل طرفه تحت رجليه وطرف تحت رأسه.
فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك سلام..؟ من أنت؟
قال موسى: أنا موسى.
قال الخضر: موسى بني إسرائيل.. عليك السلام يا نبي إسرائيل.
قال موسى: وما أدراك بي..؟
قال الخضر: الذي أدراك بي ودلك علي.. ماذا تريد يا موسى..؟
قال موسى ملاطفا مبالغا في التوقير: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا).
قال الخضر: أما يكفيك أن التوراة بيديك.. وأن الوحي يأتيك..؟ يا موسى (إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا).
نريد أن نتوقف لحظة لنلاحظ الفرق بين سؤال موسى الملاطف المغالي في الأدب.. ورد الخضر الحاسم، الذي يفهم موسى أن علمه لا ينبغي لموسى أن يعرفه، كما أن علم موسى هو علم لا يعرفه الخضر.. يقول المفسرون إن الخضر قال لموسى: إن علمي أنت تجهله.. ولن تطيق عليه صبرا، لأن الظواهر التي ستحكم بها على علمي لن تشفي قلبك ولن تعطيك تفسيرا، وربما رأيت في تصرفاتي ما لا تفهم له سببا أو تدري له علة.. وإذن لن تصبر على علمي يا موسى.
احتمل موسى كلمات الصد القاسية وعاد يرجوه أن يسمح له بمصاحبته والتعلم منه.. وقال له موسى فيما قال إنه سيجده إن شاء الله صابرا ولا يعصي له أمرا.
تأمل كيف يتواضع كليم الله ويؤكد للعبد المدثر بالخفاء أنه لن يعصي له أمرا.
قال الخضر لموسى -عليهما السلام- إن هناك شرطا يشترطه لقبول أن يصاحبه موسى ويتعلم منه هو ألا يسأله عن شيء حتى يحدثه هو عنه.. فوافق موسى على الشرط وانطلقا..
انطلق موسى مع الخضر يمشيان على ساحل البحر.. مرت سفينة، فطلب الخضر وموسى من أصحابها أن يحملوهما، وعرف أصحاب السفينة الخضر فحملوه وحملوا موسى بدون أجر، إكراما للخضر، وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها.. فوجئ بأن الخضر يتخلف فيها، لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخضر يخرق السفينة.. اقتلع لوحا من ألواحها وألقاه في البحر فحملته الأمواج بعيدا.
فاستنكر موسى فعلة الخضر. لقد حملنا أصحاب السفينة بغير أجر.. أكرمونا.. وها هو ذا يخرق سفينتهم ويفسدها.. كان التصرف من وجهة نظر موسى معيبا.. وغلبت طبيعة موسى المندفعة عليه، كما حركته غيرته على الحق، فاندفع يحدث أستاذه ومعلمه وقد نسي شرطه الذي اشترطه عليه: (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).
وهنا يلفت العبد الرباني نظر موسى إلى عبث محاولة التعليم منه، لأنه لن يستطيع الصبر عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ويعتذر موسى بالنسيان ويرجوه ألا يؤاخذه وألا يرهقه (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).
سارا معا.. فمرا على حديقة يلعب فيها الصبيان.. حتى إذا تعبوا من اللعب انتحى كل واحد منهم ناحية واستسلم للنعاس.. فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقتل غلاما.. ويثور موسى سائلا عن الجريمة التي ارتكبها هذا الصبي ليقتله هكذا.. يعاود العبد الرباني تذكيره بأنه أفهمه أنه لن يستطيع الصبر عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا).. ويعتذر موسى بأنه نسي ولن يعاود الأسئلة وإذا سأله مرة أخرى سيكون من حقه أن يفارقه (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا).
ومضى موسى مع الخضر.. فدخلا قرية بخيلة.. لا يعرف موسى لماذا ذهبا إلى القرية، ولا يعرف لماذا يبيتان فيها، نفذ ما معهما من الطعام، فاستطعما أهل القرية فأبوا أن يضيفوهما.. وجاء عليهما المساء، وأوى الاثنان إلى خلاء فيه جدار يريد أن ينقض.. جدار يتهاوى ويكاد يهم بالسقوط.. وفوجئ موسى بأن الرجل العابد ينهض ليقضي الليل كله في إصلاح الجدار وبنائه من جديد.. ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه، إن القرية بخيلة، لا يستحق من فيها هذا العمل المجاني (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).. انتهى الأمر بهذه العبارة.. قال عبد الله لموسى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ).
لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال. وجاء دور التفسير الآن..
إن كل تصرفات العبد الرباني التي أثارت موسى وحيرته لم يكن حين فعلها تصدر عن أمره.. كان ينفذ إرادة عليا.. وكانت لهذه الإرادة العليا حكمتها الخافية، وكانت التصرفات تشي بالقسوة الظاهرة، بينما تخفي حقيقتها رحمة حانية.. وهكذا تخفي الكوارث أحيانا في الدنيا جوهر الرحمة، وترتدي النعم ثياب المصائب وتجيد التنكر، وهكذا يتناقض ظاهر الأمر وباطنه، ولا يعلم موسى، رغم علمه الهائل غير قطرة من علم العبد الرباني، ولا يعلم العبد الرباني من علم الله إلا بمقدار ما يأخذ العصفور الذي يبلل منقاره في البحر، من ماء البحر..
كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه.. كشف له أن علمه -أي علم موسى- محدود.. كما كشف له أن كثيرا من المصائب التي تقع على الأرض تخفي في ردائها الأسود الكئيب رحمة عظمى.
إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة جاءتهم، بينما هي نعمة تتخفى في زي المصيبة..