عقيدة الولاء والبراء في الإسلام
قد نهى الله سبحانه وتعالى عن موالاة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين في مواضع كثيرة من القرآن وأخبر أن موالاتهم تنافي الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وأنها سبب للفتنة والفساد في الأرض وأن من والاهم ووادهم فليس من الله في شيء وأنه من الظالمين الضالين عن سواء السبيل وأنه مستوجب لسخط الله وأليم عقابه في الآخرة والآيات في هذا كثيرة .
الأولى منها : قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } إلى قوله تعالى : { تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } ثم حث تعالى عباده المؤمنين على متابعة خليله إبراهيم والتأسي به وبمن آمن معه في معاداة أعداء الله تعالى والتبري منهم ومما يعبدون من دون الله تعالى وإظهار العداوة لهم والبغضاء ما داموا على الكفر بالله فقال الله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } ومن لم يتأسى بإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في معاداة أعداء الله تعالى وإظهار العداوة والبغضاء لهم ، فله من سفه النفس بقدر ما ترك من ملة إبراهيم الخليل ، كما قال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } .
الآية الثانية : قوله تعالى : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } .
الآية الثالثة : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } .
الآية الرابعة : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } ثم حذر تبارك وتعالى من موالاتهم بأبلغ التحذير وتوعد على ذلك بأشد الوعيد فقال تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنّه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } قال بعض المفسرين : " فيه زجر شديد عن إظهار صورة الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة " وأقل الأحوال في هذه الآية أنها تقضي تحريم موالاة أعداء الله تعالى وإن كان ظاهرها يقتضي كفر من تولاهم ولهذا روي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : " ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر وتلا هذه الآية " وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال : " قال عبد الله بن عتبة : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر . قال : فظنناه يريد هذه الآية " .
وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : " قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصرانيا قال : مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } ألا اتخذت حنيفا ؟ ( يعني مسلماً ) قال : قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه . قال : لا أكرمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله " .
وورد على عمر رضي الله عنه كتاب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه : " أما بعد يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتبا نصرانيا لا يتم أمر الخراج إلا به فكرهت أن أقلده دون أمرك . فكتب إليه : عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني أما بعد : فإن النصراني قد مات والسلام " يعني أن هذا النصراني قدّر أنه مات فما كان معاوية سيفعل بعد موته فليفعل الآن وهذا أمر من عمر - رضي الله عنه - لمعاوية - رضي الله عنه - بإبعاد النصراني وتولية غيره من المسلمين مكانه من غير مراجعة وإخبار له بأن المسلمين في غنية عن النصارى واليهود .
وفي قول عمر رضي الله عنه دليل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يولوا في أعمالهم أحداً من أعداء الله تعالى لأن في ذلك طريق لتجسسهم على المسلمين وإكراماً لهم وإعزازاً وهو خلاف ما شرعه الله من إهانتهم وإذلالهم وإقصائهم والتاريخ شاهد على خيانتهم للمسلمين قديماً وحديثاً كما حدث مؤخراً للحكومة السودانية مع قرنق النصراني الذي انشق عن الحكومة وأفسد البلد .
الآية الخامسة : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } وهذا نهي من الله عن موالاة أعدائه من أهل الكتاب وغيرهم من سائر المشركين وإخباراً منه تعالى بأن موالاتهم تنافي الإيمان ، ولهذا قال تعالى : { واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } قال إمام المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية : " لا تتخذوهم أيها المؤمنون أنصاراً وإخواناً وحلفاء فإنهم لا يألونكم خبالا وإن أظهروا لكم مودة وصداقة " .
الآية السادسة : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره : " ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم وقوله : { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } أي حجة عليكم في عقوبته إياكم " .
وقال أبو جعفر بن جرير الطبري يقول : " لا تعرّضوا لغضب الله بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهل الكفر به " .
الآية السابعة : قوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } وهذا وتهديد شديد عن موالاة أعداء الله تعالى وموادتهم ، فينبغي للمسلم أن يحذر أشد الحذر من أن يكون من الذين يحسبون أنهم على شيء وهو من الخاسرين الذين ليسوا من الله في شيء والعياذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه . قال المناوي في " شرح الجامع الصغير " له : " الإقبال على عدو الله وموالاته توجب إعراضه عن الله ومن أعرض عنه تولاه الشيطان ونقله إلى الكفر " وقال الزمخشري : " وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان " .
ولقد أحسن العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث قال في نونيته المشهورة :
أتحب أعداء الحبيب وتدعي ***** حباً له ما ذاك في إمكانِ
وكذا تعادي جاهداً أحبابه ***** أين المحبة يا أخا الشيطانِ
وثم قال تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } قال البغوي - رحمه الله - في تفسيره معنى الآية : " أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم ، إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين ، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً أو يظهر الكفار على عورة المسلمين والتقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل وسلامة النية ، قال الله تعالى : { إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ثم هذه رخصة فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم " وروى أبو نعيم في كتاب " الحلية " عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قيل له : " ما التقاة ؟ ، قال : أن يخاف جباراً عنيداً أن يفرط عليه أو أن يطغى " .
وقال ابن القيم - رحمه الله – : " معلوم أن التقاة ليست بموالاة ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم ، والبراءة منهم ، ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية وليست التقية موالاة لهم " .
وقوله : ( ويحذركم الله نفسه ) قال أبو جعفر بن جرير : " يعني بذلك متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به وأتيتم ما نهاكم عنه من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين نالكم من عقاب ربكم مالا قبل لكم به يقول فاتقوه واحذروه أن ينالكم ذلك منه فإنه شديد العقاب " .
الآية الثامنة : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } وهذا أمر من الله تعالى بمعاداة أعدائه ولو كانوا أقرب قريب كالآباء والأبناء والإخوان والعشيرة ، وفي النص على الأقارب دليل على أن عداوة من سواهم من الكفار من باب أولى .
الآية التاسعة : قوله تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } قال البغوي - رحمه الله - : " أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكفار وأنّ من كان مؤمنا لا يوالي من كفر وإن كان من عشيرته " وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافراً فمن واد الكفار فليس بمؤمن " .
ثم أثنى الله على الذين يعادون أعداءه ويتقربون إليه ببغضهم أن أثبت لهم الإيمان والتأييد منه ووعدهم الثواب الجزيل في الدار الآخرة مع الرضى عنهم فقال تعالى : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } .
الآية العاشرة : قوله تعالى : { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } وروى عبدالله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن سعيد بن المسيب قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله يقول : ( من اعتز بالعبد أذله الله ) .
الآية الحادية عشرة : قوله تعالى : { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا } .
الآية الثانية عشرة : قوله تعالى : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } وهذا نهي من الله تبارك وتعالى عن الركون إلى الظالمين من الكفار والمنافقين والفساق والفجار وإخبار منه تعالى بأن الركون إليهم موجب للعذاب في الدار الآخرة قال الجوهري والهروي وغيرهما من أهل اللغة : " الركون السكون إلى الشيء والميل إليه " وقال البغوي : " هو المحبة والميل بالقلب " .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية : " لا تميلوا إلى الذين ظلموا " وعنه أيضاً : " هو الركون إلى الشرك ". وعنه : " لا تداهنوا " وقال السدي : " لا تداهنوا الظلمة " وقال أبو العالية : " لا ترضوا بأعمالهم " و قال بعض العلماء : " معنى تصطنعوهم تولّوهم الأعمال كمن يولي الفُساق والفجار " وقال الزمخشري : " النهي متناول للإنخراط في هواهم والإنقطاع إليهم ومصاحبتهم والرضى بأعمالهم والنسبة إليهم والتزيي بزيهم " وقال بعض العلماء : " وكذلك مجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم ومدلين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم " .
الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم } قال الجوهري : " بطانة الرجل وليجته " وقال ابن الأثير : " بطانة الرجل صاحب سره وداخلة أمره الذي يشاوره في أحواله " وقال البغوي في قوله تعالى { لا تتخذوا بطانة من دونكم } : " أي أولياء وأصفياء من غير أهل ملّتكم وبطانة الرجل خاصته تشبيها ببطانة الثوب التي تلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطّلعون منه على مالا يطلع عليه غيرهم ثم بين العلّة في النهي عن مباطنتهم فقال جل ذكره { لا يألونكم خبالا } أي لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد " .
وقال القرطبي في تفسيره : " نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكافرين واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولائج يفاوضونهم في الآراء ويسندون إليهم أمورهم " وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدهقانة قال : " قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنّ ها هنا غلام من أهل الحيرة حافظا كاتبا فلو اتخذته كاتبا ، فقال : قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين " وقال ابن كثير - رحمه الله - : " ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب " .
فكيف بمن يُعادي المسلمين من أجلهم ويدافع عنهم على ظلمهم كما يفعل بعض الجُهال الذين توارثوا هذا الجهل عن أبائهم وأجدادهم ؟ نعوذ بالله من الجهل ونسأل الله الفقه في الدين ومتابعة سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .