موضوع: ............. العبد التواب................ السبت نوفمبر 20, 2010 5:07 am
إن العبد التواب هو ذلك العبد الموفق الكثير التوبة، الذي إذا أذنب تاب إلى الله، وأتبع ذلك طاعات، وقربات، ونوافل يتقرب بها إلى ربه، لاسيما بعد معرفة الذنب، والاعتراف به، وطلب التخلص من سوء عواقبه، كما حصل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم..
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله!. إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها مادون أن أمسها، فأنا هذا، فاقض فيَّ ما شئت، فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت نفسك، قال فلم يردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، فقام الرجل فانطلق، فاتبعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هُود: 114]. فقال رجل من القوم: يا نبي الله ! هذا له خاصة، أو لنا عامة؟ قال: بل للناس كافة".
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرمًا
فلولاك لم ينج من إبليس عابد وكيف وقد أغوى صفيك آدما
وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها، فضلاً عن القيام بها علمًا وعملاً وحالاً.
ولم يجعل الله تعالى محبته للتوابين إلا وهم خواص الخلق لديه.
ومتى ما حصل للعبد علم بعاقبة المعصية والذنوب، وكان في جوانحه الخوف والرجاء، وكان خوفه خوفًا من الله وعذابه ممزوجًا برجاء عفوه وكرمه، كان المجال رحبًا أمامه لتزكية نفسه، والارتقاء بها، بعد محاسبتها، وتأنيبها، ومجاهدتها، نحو توبة صادقة هي طاعة من أعظم الطاعات، وقربة من أجل القربات.
إنها في هذه الحال تثمر الفرحة التي يجدها العبد في نفسه، والحلاوة التي تغمر روحه وقلبه.
لذا كانت ضرورة في كل وقت وآن، وفي كل زمان ومكان، ولا يستغني عنها العبد بأي حال من الأحوال.
إن التوبة هي حقيقة دين الإسلام والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيبًا لله قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البَقَرَة: 222].
ومن أحبه الله لا شك أنه سوف يسعد في دينه ودنياه كما أنه موعود في آخرته بما هو أكمل وأتم من ذلك.. بسعادة لا شقاء بعدها.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء".
وسر هذا التلازم بين التوبة والوضوء.. هو أن في الوضوء طهارة حسية للبدن، وغالبًا ما يكون ذلك دليلاً على الرغبة في الطهارة المعنوية التي هي طهارة القلب، واللسان، والجوارح من الخطيئات، فكيف إذا اجتمع مع الوضوء قرب واتصال بالله متمثل في الصلاة، ذلكم النهر الغمر الذي يذهب بأدران الذنوب والخطايا، فلا يبقي منها على شيء، فإن هذا أبلغ في المغفرة ومحو السيئات كما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يذنب ذنبًا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له".
وفي الحديث الآخر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًا، فأقم فيَّ كتاب الله، قال: أليس قد صليت معنا. قال: نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدك".
آثار الذنوب والمعاصي: ومما يعين على التوبة، ويرغب النفس في سلوك الهدى أن يعلم العبد أن للذنوب والمعاصي أضرارًا جسيمة في النفس وفي الآفاق بل وفي الأفراد والمجتمعات.
يقول ابن القيم رحمه الله: "فما أصاب العبد من مصيبة وبلاء، أو شر وداء في الدنيا والآخرة إلا سببه الذنوب والمعاصي، بل إن للذنوب عقوبات معجلة في الدنيا قبل الآخرة لا تتأخر عنه البتة، ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبات".
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
وإليك بعض تلك الأضرار والآثار السيئة على العباد والبلاد: (1) حرمان العلم: فإن العلم نور يقذفه الله في قلب العبد، والمعصية تطفئ ذلك النور، وإن الذنوب تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد طرق العلم، وتحجب موارد الهداية، قال علي بن خشرم رحمه الله: "سألت وكيعًا عن دواء الحفظ فأجاب: ترك المعاصي". ولما رأى الإمام مالك رحمه الله من تلميذه الشافعي رحمه الله ما رأى أعجب بفطنته وذكائه وفهمه وقال له: "إني أرى أن الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية".
وقال الضحاك رحمه الله: "ما نعلم أحدًا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشّورى: 30].
(2) وحشة في القلب: تكون بين العبد وربه، ثم يمتد أثرها لتكون بينه وبين عباد الله، وتقوى هذه الوحشة حتى مع أهله وأقاربه، فتراه لا ينتفع بمجالس الخير والصلاح بل يؤثر مجالس السوء والشيطان عليها.
وهذه الوحشة التي يجدها العاصي في قلبه لا توازنها لذة مهما اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها، قال بعض السلف رحمه الله: "إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي".
وحشة تجعل للحياة مرارة؛ لأن المعصية والغفلة توجب البعد من الله وكلما ازداد البعد قويت الوحشة. أما الطاعة فإنها توجب القرب من الله، وكلما اشتد القرب قوي الأنس، وقد قيل:
فإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس
(3) قلة التوفيق وتعسر الأمور: فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقًا، أو متعسرًا عليه، وكما أن من اتقى الله جعل الله له من أمره يسرًا، فكذلك من عطل التقوى، وأسرف في المعاصي جعل الله له من أمره عسرًا.. كيف لا وقد انقطعت عنه أسباب الخير واتصلت به أسباب الشر.
فأي توفيق وفلاح، وأي رجاء ونجاح يرجو العبد ويأمل وقد قطع ما بينه وبين خالقه ومولاه؟!
(4) وهن البدن: فالمؤمن المطيع لربه قوته في قلبه، وكلما قوي قلبه قوي بدنه، أما الفاجر والعاصي وإن كان قوي البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه.
كذلك فإن ترك التقوى يجلب الفقر والفاقة، وأشد تركٍ للتقوى هو مقارفة المعاصي بترك واجب أو فعل محرم فما استجلب رزق الله بمثل ترك المعاصي.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
(6) محق بركة العمر: فإن المعاصي تمحق بركة الدين والدنيا، وتمحق بركة العمر فالعبد إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية..
فإن عمر الإنسان هو حياته بالله، كما أن حقيقة الحياة هي حياة القلب، والتي لا تكون إلا بالبر والتقوى والطاعة، لذلك وصف الله الكافرين الذين هم أكثر الخلق إضاعة للحياة بأنهم أموات كما في قوله تعالى: ﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [النّحل: 21].
(7) حرمان الطاعة: فإن الطاعات بيد الله، ولا تحصل إلا بتوفيق الله وهدايته للعبد، فحين يختار العبد الحياة المظلمة المسودة بالذنوب، فإن ذلك يقطع عليه طريق الطاعة، فلا يوفق لها، بل تضعف عنده إرادة التوبة شيئًا فشيئًا حتى تنسلخ من قلبه، وتقوى إرادة المعصية لديه فيُحرَم الطاعة والعياذ بالله.
جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله فسأله قائلاً: يا أبا سعيد، إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟، فقال: "ذنوبك قيدتك"، وقال النووي رحمه الله: "حرمت قيام الليل مرة بذنب أذنبته"، وقال سليمان الداراني رحمه الله: "لا تفوت أحدًا صلاة الجماعة إلا بذنب".
(8) لباس الذل: إن الرجل إذا أصاب الذنب و لو سرًا أصبح وعليه مذلته، ووجد عقوبة ذنبه عاجلاً أو آجلاً، فالعز في طاعة الله والذل في معصيته، وقال الحسن البصري رحمه الله: "أبى الله إلا أن يذل من عصاه"، وقال سليمان التيمي رحمه الله: "إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته".
(9) هوان المذنب على الله: قال الحسن البصري رحمه الله: "هانوا على الله فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم وإن هان العبد على ربه لم يكرمه أحد" قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ [الحَجّ: 18].
أما ما يرى من تعظيم الناس لأهل المعصية، فهو في الظاهر فقط إما لمصلحة أو بسبب اتفاق في الأهواء والمشارب، أو بسبب خوف ونحوه.
(10) هوان المذنب على الناس: فيحدث له سقوط الجاه والمنزلة والكرامة، وسقوط في أعين الناس وقلوبهم، فيصبح خامل الذكر ساقط القدر يرثى لحاله، ولا حرمة له أو شأن، بينما ترى العبد إذا كان من أهل الطاعة والتقوى كان من أكرم الخلق عند الله قال الكريم جل في علاه: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحُجرَات: 13]. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر".
(11) لعنة البهائم للمذنب: فلا يكفي المذنب عقاب ذنبه حتى يبوء بلعنة من لا ذنب له حتى البهائم والدواب تلعن عصاة بني آدم حيث منعت القطر من السماء بشؤم معصية العصاة..
(12) انعدام الغيرة: فكلما اشتدت مقارفة العبد للذنوب كلما انطفأت وخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله، فلا يستقبح القبيح بل يستحسن الفواحش ويزينها لغيره، ويدعو لها ويحث عليها، ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله، فإن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له.
(13) زوال النعم: فإن نعم الله تحفظ وتستجلب بطاعة الله، أما المعاصي فهي الآفات المانعة التي تحجب النعم، فإذا أراد الله حفظ النعمة لعبده ألهمه رعايتها بطاعته، وإذا أراد الله زوالها عنه خذله الله حتى ربما عصاه العبد بها، وقد قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
(14) الرعب والخوف في القلب: فلا تراه إلا خائفًا مرعوبًا أحاطت به المخاوف من كل جانب؛ لأنه عصى الله دون خوف من الله أو عقابه، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شئ.
(15) ذهاب الحياء: فالذنوب تضعف الحياء من العبد، فلا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله، ولا باطلاعهم عليه، وربما أخبر عن حاله، وقبح ما يفعل، قد حمله على ذلك انسلاخه من الحياء فلا يستحي من الله ولا من عباده، فتجد من العصاة من يركب المعاصي، ويعلن بها ويجاهر دون خوف من الله أو حياء من الناس، ويفعل ما يحلو له من القبائح وما يشاء، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، فإن الإلمام بالمحاقر دون تورع، والوقوع في الصغائر دون اكتراث دليل على فقدان النفس لحيائها، ثم فقدانها لإيمانها.
ومتى ما فقد المرء الحياء تدرج من سيئ إلى أسوأ، ومن رذيل إلى أرذل ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل، ويكون عرضة للهلاك والبوار.
(16) اعتياد الذنوب وتوالد السيئات: فإن المذنب قد يألف المعصية ولا يستقبحها، بل تصير له عادة، وربما افتخر بفعله للذنب، وعدَّ هذا من تمام اللذة، وغاية التهتك، كما عند بعض العصاة والعياذ بالله، فالمعاصي تزرع أمثالها، قال أحد السلف رحمه الله: "إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها حتى إن العاصي قد لا يجد أحيانا لذة للمعصية لكنه يجد ألمًا وربما ضاقت عليه نفسه لمفارقة المعصية".
(17) الطبع على القلب: فإن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب المرء فكان من الغافلين؛ لأن القلب يصدأ من المعصية. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا أخطأ نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيه حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله".
وقال عز وجل : ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطفّفِين: 14]. قال الحسن رحمه الله: "هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب"، حتى يصير الران طبعًا وقفلاً وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فيتولاه الشيطان ويسوقه حيث أراد.
(18) أسر الشيطان: ولا أسير أسوأ حالاً من أسير أسره الشيطان، الذي هو أعدى عدو للإنسان، فإن العبد بمعصيته لربه يصبح بعيدا عن الله وحينها لم يكن عليه من الله حافظ، فيقع في سجن الشيطان وأسره، حينها يفترسه الشيطان، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
(19) نزول النقم: يقول ابن القيم رحمه الله: "ومن تأثير المعاصي في الأرض: ما يحل بها من الخسف والزلازل، ويمحق بركتها، وكثير من هذه الآفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب". ويقول رحمه الله أيضًا: "فإن الذنوب والمعاصي تحدث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء والزروع والثمار والمساكن...".
وغير ذلك من الآثار السيئة في الدنيا والآخرة كمنع إجابة الدعاء، وضيق الصدر، وسوء الخاتمة، وعذاب الآخرة، إضافة إلى ما يُرى ويشاهد من الفساد فى البر والبحر، قال جل وعلا: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الرُّوم: 41].
وجاء في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا"، وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو يصور آثار الحسنات، التي هي نتائج لفعل الطاعات، وآثار السيئات، التي هي نتائج لفعل الذنوب والمعاصي حيث يقول: "إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدن، وسعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمةً في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنًا في البدن، وضيقا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق"، وكما قال تعالى: ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النِّسَاء: 123].
فربما كان الجزاء معجلاً في الدنيا قبل الآخرة كما هو معلوم ومشاهد.
التوبة تدفع البلاء: فإن الله قدر ما قدر من الحسنات والسيئات، وما ظهر من الفساد ليرجع الناس إلى الحق، ويبادروا بالتوبة مما حرم الله عليهم، ويسارعوا إلى طاعة الله ورسوله.
فقد قال الله تبارك وتقدس: ﴿ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [التّوبَة: 126].
يُفْتَنُونَ أي: يختبرون بالسراء والضراء، وما يصيبهم من البلايا والأمراض، وبالأوامر والنواهي؛ ليرجعوا إلى الله. ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ أي: من ذنوبهم السالفة.
وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ أي: فيما يستقبل من أحوالهم، ويعرفون ما ينفعهم فيفعلونه وما يضرهم فيتركونه.
إن الكفر والمعاصي هما سبب كل بلاء وشر في الدنيا والآخرة.
كما هو الحال في الأمم السابقة أصابهم العذاب والنكال، بالطوفان، والريح العقيم، والصيحة، والغرق، والخسف، وغير ذلك كله بأسباب كفرهم وذنوبهم. ومن أمثلة ذلك ما جاء في قوله تبارك وتعالى: ﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العَنكبوت: 40].
لهذا أمر الله العباد بالتوبة والضراعة والافتقار إليه عند وقوع الفتن، والبلايا والرزايا من الأمراض، والجراح، والقتال، والزلازل، والريح العاصفة، وغيرها.
فبين سبحانه وتعالى أن قسوة قلوبهم، وتزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة كل ذلك صدهم عن التوبة والضراعة والاستغفار، التي جعلها الله أسبابا لزوال المصائب والمصاعب. وقد ثبت عن الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله "أنه لما وقع الزلزال في زمانه كتب إلى عماله في البلدان وأمرهم أن يأمروا المسلمين بالتوبة إلى الله والضراعة إليه والاستغفار من ذنوبهم".
كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرّعد: 11].
فإن الله سبحانه بعدله وكرمه لا يسلب العبد نعمة وهبه إياها، أو يغير أحوال الناس إلا بعد أن يغير العباد أحوالهم، ونواياهم، وقلوبهم، وسلوكهم، وأوضاعهم بل إن الله يزيد النعم لعبده، ويبقيها له متى ما عرف العبد ربه فأطاع وشكر كما أنه سبحانه يسلبها منه، ويزيلها عنه، إذا هو أنكر وبطر، أو عصى وكفر.
الباب المفتوح: إن باب التوبة مفتوح، وعطاء الله ممنوح، وفضله تعالى يغدو ويروح.
ولكن.. أين التائب المستغفر؟ وأين صاحب القلب المنكسر؟ أين العائد المنيب؟ أين الراجي المقبل على الله؟
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للجنة ثمانية أبواب سبعة مغلقة وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".
فباب التوبة مفتوح لكل من استيقظ ضميره، وأراد العودة والمآب، ولا يُصَد عن الباب قاصد، ولا يغلق في وجه لاجىء أيًّا كان، ومهما ارتكب من الخطايا والآثام، حتى ولو كان الكفر والصد عن سبيل الله ومحاربة أوليائه، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البُرُوج: 10].
قال الحسن البصري رحمه الله: "انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة".
وفي مقام آخر يخاطب الله الكافرين بقوله: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ﴾ [الأنفَال: 38].
فالطريق أمامهم مفتوح؛ ليتوبوا عن هذا كله ويرجعوا إلى الله، ولهم عندئذ أن يغفر لهم الله ما قد سلف، رغم كفرهم واجتماعهم لحرب الإسلام وأهله، وإنفاقهم الأموال للصد عن سبيل الله.
فما على المنيب منا إلا أن يطرق باب الكريم سبحانه وتعالى، ويعمل صالحًا يدلِّل فيه على صدق توبته وإنابته.
يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترف ثم ارعوى ثم انتهى ثم اعترف
أبشر بقول الله في تنزيله إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وهذا فرعون أيضًا رغم عتوه وفجوره، وظلمه وطغيانه، وكفره وعناده، وقوله: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القَصَص: 38].
ربما لم يشهد التاريخ ولم تعرف الدنيا طاغية في جبروته وبطشه وعظيم إجرامه، فهو الذي قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ﴾ [النَّازعَات: 24].
إن فرعون قد وضع بصماته السوداء على جبين التأريخ، وأصبح مضرب الأمثال في البطر والأشر، والقبائح كلها، فقد ادعى الربوبية والألوهية، وذبح الرجال واستحيى النساء، فجمع الظلم والظلمات بأسرها، ولبس لبوس الجاهلية بألوانها. ورغم ذلك كله يدعوه ربه تعالى إلى التوبة وتزكية النفس وتطهيرها، وذلك بسلوك طريق الهدى والرشاد، في ظل الحياة الكريمة، حياة العبودية لله، فالإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها.
ولهذا أرسل الله لفرعون نبيه موسى _ج بعد أن قال له: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النَّازعَات: 17-19].
فسبحانك ربنا ما أحلمك وما أرحمك! وسبحانك ما أعدلك وما أحكمك! فتحت لعبادك باب التوبة والمغفرة، فلك الحمد ربنا كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، ولك الحمد في الآخرة والأولى.
سبحانك أنت اللطيف الرؤوف بخلقك، أنت الكريم الجواد بعبادك، أنت الرحيم بالعباد مهما بلغت بهم الخطايا والزلات.لكنّ من أرجو لا يغلق البابا العفو يا رباه فالقلب قد تابَ
فسبحانك ربنا ما أحلمك وما أرحمك! وسبحانك ما أعدلك وما أحكمك! فتحت لعبادك باب التوبة والمغفرة، فلك الحمد ربنا كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، ولك الحمد في الآخرة والأولى.
سبحانك أنت اللطيف الرؤوف بخلقك، أنت الكريم الجواد بعبادك، أنت الرحيم بالعباد مهما بلغت بهم الخطايا والزلات.لكنّ من أرجو لا يغلق البابا العفو يا رباه فالقلب قد تابَ